الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضًا، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وابو داود والترمذي والنسائي عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» هذا لفظ مسلم، وفي لفظ له أيضًا: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» والقاعدة المقررة في الأصول: ان النهي يقتضي التحريم. فأظهر الأقوال دليلًا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر، لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم. أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفًا وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد، وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد: وقد نهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور وقد قال: «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وقال تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7]، وقد قدمنا أن لعنه صلى الله عليه وسلم من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم، واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها عموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدًا» الحديث. قالوا عمومه يشمل المقابر ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين: أحدهما أن أحاديث النهي منه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة، وحديث «جعلت لي الأرض مسجدًا» عام، والخاص يقتضي به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور، والثاني أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استثنى من عموم كون الأرض مسجدًا المقبرة والحمام، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححاه عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» قال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري باب كراهية الصلاة في المقابر في حديث ابي سعيد هذا رواه أبو داود والترمذي ورجاله ثقات، لكن اختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان، وقال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: صححه الحاكم في المستدرك وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته.قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله، وثبت موصولًا من طريق صحيحة حكم بوصله، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه. لأن الوصل زيادة وزيادات العدول مقبولة، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: ومن أدلة من قال: تصح الصلاة في القبور- ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أن امرأةَ سوداء كانت تقم المسجد أو شابًا فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه فقالوا مات قال: «أفلا آذنتموني» قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره. فقال دلُّوني على قبره فدلُّوه فصلَّى عليها. ثمَّ قال: «هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها وإنَّ الله ينورها لهم بصلاتي عليهم» وليس للبخاري «إن هذه القبور مملوءة ظلمة» إلى آخر الخبر قالوا: فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر.ومن أدلتهم أيضًا- ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعًا.ومن أدلتهم ايضًا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النَّبي صلى على قبر.ومن أدلتهم- ما ذكره البخاري تعليقاُ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ: ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر. فقال: القبر القبر ولم يامره بالإعادة.اهـ.، وقال ابن حجر في الفتح: أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة، والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولًا في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري، ولفظه: بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر: القبر القبر! فظن أنه يعني القمر. فلما راى أنه يعني القبر جاوز القبر وصلى. وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق. منها من طريق حميد عن أنس نحوه، زاد فيه: فقال بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه، وقوله القبر القبر بالنصب فيهما على التحذير، وقوله ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادى أنس على الصلاة، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف اهـ منه بلفظه.قال مقيده عفا الله عنه: هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح، وفي هذه المسالة يجب الجمع والترجيح معًا. أما وجه الجمع فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت وليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء للميت فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور، ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود، ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر. نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة، فيشمل الصلاة على الميت، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده بل العكس. أم الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة، والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز، وللمخالف ان يقول: لا يتعارض عام وخاص. فحديث: «لا تصلوا إلى القبور» عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت، والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة والخاص يقضى به على العام. فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية: منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقًا للعنه صلى الله عليه وسلم لمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من الأدلة- وأن الصلاة على القبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح نم حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس ويومىء لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد لأنها أماكن السجود، وصلاة الجنازة لا سجود فيها. فموضعها ليس بمسجد لغة لأنه ليس موضع سجود.تنبيه:اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده: من أن الكتاب والسنة دلل على اتخاذ القبور مساجد، يعني بالكتاب قوله تعالى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} [الكهف: 21]، ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن موضع مسجد النًّبي صلى الله عليه وسلم كان فيه قبور المشركين- في غاية السقوط، وقائله من أجله خلق الله.أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقولك من هؤلاء القوم الذين قالوا لنتخذن عيلهم مسجدًا؟ أهم ممن يقتدي به! أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم؟ وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم ما نصه: وقد اختلف في قائل هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري.وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية إنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} [الكهف: 21].- بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} الحديث يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ملعون على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، ومن كان ملعونًا على لسانه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه. لأن الله يقول: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. الآية، ولهذا صرح ابن مسعود رضي الله عنه بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله، وقال للمرأة التي قالت له: قرأت ما بين الدفتين فلم أجد إن كنت قرأته فقد وجدته، ثم تلا الآية الكريمة، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا دليل في آية: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} [الكهف: 21].وأما الاستدلا بأن مسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مبنى في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر. لأن النًّبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فنشبت وأزيل ما فيها. ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: «فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة». الحديث. هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم قريب منه بمعناهـ. فقبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بنبشها وإزالة ما فيها. فصار الموضع كأن لن يكن فيه قبر أصلًا لإزالته بالكلية، وهو واضح كما ترى اهـ.والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها.كما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي: ان عليًا رضي الله عنه قال له: «ألا أبعثك على ما بعثتني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته».ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه».فهذا النهي ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وقد قال: «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وقال جل وعلا: {مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
|